فصل: الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 16‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 سورة الطور

عن جبير بن مطعم قال‏:‏ ‏(‏سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً أو قراءة منه‏)‏ ‏"‏أخرجه الشيخان من طريق مالك‏"‏‏.‏ وروى البخاري، عن أُم سلمة قالت‏:‏ شكوت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أني أشتكي فقال‏:‏ ‏(‏طوفي من وراء الناس وأنت راكبة‏)‏ فطفت ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت يقرأ بالطور وكتاب مسطور‏.‏

بسم اللّه الرحمن الرحيم

 الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 16‏)‏

‏{‏ والطور ‏.‏ وكتاب مسطور ‏.‏ في رق منشور ‏.‏ والبيت المعمور ‏.‏ والسقف المرفوع ‏.‏ والبحر المسجور ‏.‏ إن عذاب ربك لواقع ‏.‏ ما له من دافع ‏.‏ يوم تمور السماء مورا ‏.‏ وتسير الجبال سيرا ‏.‏ فويل يومئذ للمكذبين ‏.‏ الذين هم في خوض يلعبون ‏.‏ يوم يدعون إلى نار جهنم دعا ‏.‏ هذه النار التي كنتم بها تكذبون ‏.‏ أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون ‏.‏ اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون‏}‏

يقسم تعالى بمخلوقاته الدالة على قدرته العظيمة، أن عذابه واقع بأعدائه وأنه لا دافع له عنهم، والطور هو الجبل الذي يكون فيها أشجار مثل الذي كلم اللّه عليه موسى، وما لم يكن فيه شجر لا يسمى طوراً، إنما يقال له جبل، ‏{‏وكتاب مسطور‏}‏ قيل‏:‏ هو اللوح المحفوظ، وقيل‏:‏ الكتب المنزلة المكتوبة، التي تقرأ على الناس جهاراً، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏في رق منشور * والبيت المعمور‏}‏، ثبت في الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال في حديث الإسراء‏:‏ ‏(‏ثم رفع بي إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه آخر ما عليهم‏)‏ ‏"‏هو جزء من حديث طويل في الإسراء أخرجه الشيخان‏"‏يعني يتعبدون فيه ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم، وهو كعبة أهل السماء السابعة، وفي كل سماء بيت يتعبد فيه أهلها ويصلون إليه، والذي في السماء الدنيا يقال له بيت العزة، واللّه أعلم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ البيت المعمور هو بيت حذاء العرش تعمره الملائكة، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه، وكذا قال عكرمة ومجاهد وغير واحد من السلف‏.‏ وقال قتادة والسدي‏:‏ ذكر لنا أن رسول اللّه صلى اللّه

عليه وسلم قال يوماً لأصحابه‏:‏ ‏(‏هل تدرون ما البيت المعمور‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ اللّه ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏(‏فإنه مسجد في السماء بحيال الكعبة لو خر لخر عليها، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسقف المرفوع‏}‏ عن علي قال‏:‏ يعني السماء، ثم تلا‏:‏ ‏{‏وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون‏}‏، وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي واختاره ابن جرير، وقال الربيع بن أنَس‏:‏ هو العرش يعني أنه سقف لجميع المخلوقات، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والبحر المسجور‏}‏ قال الربيع بن أنَس‏:‏ هو الماء الذي تحت العرش الذي ينزل اللّه منه المطر الذي تحيا به الأجساد في قبورها يوم معادها، وقال الجمهور‏:‏ هو هذا البحر، واختلف في معنى قوله ‏{‏المسجور‏}‏ فقال بعضهم‏:‏ المراد أنه يوقد يوم القيامة ناراً كقوله، ‏{‏وإذا البحار سجرت‏}‏ أي أضرمت فتصير تتأجج محيطة بأهل الموقف، وروي عن علي وابن عباس‏.‏ وقال العلاء بن بدر‏:‏ إنما سمي البحر المسجور لأنه لا يشرب منه ماء ولا يسقى به زرع، وكذلك البحار يوم القيامة، وعن سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏والبحر المسجور‏}‏ يعني المرسل، وقال قتادة‏:‏ المسجور المملوء، واختاره ابن جرير، وقيل‏:‏ المراد بالمسجور الممنوع المكفوف عن الأرض لئلا يغمرها فيغرق أهلها، قاله ابن عباس وبه يقول السدي وغيره، وعليه يدل الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات يستأذن اللّه أن ينفضح عليهم فيكفه اللّه عزَّ وجلَّ‏)‏ ‏"‏رواه الإمام أحمد في المسند‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن عذاب ربك لواقع‏}‏ هذا هو القسم عليه أي لواقع بالكافرين، ‏{‏ماله من دافع‏}‏ أي ليس له دافع يدفعه عنهم، إذا أراد اللّه بهم ذلك، قال الحافظ ابن أبي الدنيا‏:‏ خرج عمر يعس المدينة ذات ليلة، فمرّ بدار رجل من المسلمين فوافقه قائماً يصلي، فوقف يستمع قراءته فقرأ‏:‏ ‏{‏والطور - حتى بلغ - إن عذاب ربك لواقع * ماله من دافع‏}‏ قال‏:‏ قسم ورب الكعبة حق، فنزل عن حماره، واستند إلى حائط، فمكث ملياً، ثم رجع إلى منزله، فمكث شهراً يعوده الناس لا يدرون ما مرضه رضي اللّه عنه ‏"‏رواه ابن أبي الدنيا عن جعفر بن زيد العبدي‏"‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم تمور السماء موراً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ تتحرك تحريكاً، وقال مجاهد‏:‏ تدور دوراً، وقال الضحّاك‏:‏ استدارتها وتحركها لأمر اللّه وموج بعضها في بعض، وهذا اختيار ابن جرير أنه التحرك في استدارة، قال وأنشد أبو عبيدة بيت الأعشى فقال‏:‏

كأنَّ مِشَيتها من بيت جارتها * مَوْرُ السحابة لا رَيْثٌ ولا عجل

‏{‏وتسير الجبال سيراً‏}‏ أي تذهب فتصير هباء منبثاً وتنسف نسفاً، ‏{‏فويل يومئذ للمكذبين‏}‏ أي ويل لهم ذلك اليوم من عذاب اللّه ونكاله، ‏{‏الذين هم في خوض يلعبون‏}‏ أي هم في الدنيا يخوضون في الباطل ويتخذون دينهم هزواً ولعباً ‏{‏يوم يُدَعُّون‏}‏ أي يدفعون ويساقون ‏{‏إلى نار جهنم دَعّا‏}‏، قال مجاهد والسدي‏:‏ يدفعون فيها دفعاً ‏{‏هذه النار التي كنتم بها تكذبون‏}‏ أي تقول لهم الزبانية ذلك تقريعاً وتوبيخاً، ‏{‏أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون * اصلوها‏}‏ أي ادخلوها دخول من تغمره من جميع جهاته، ‏{‏فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم‏}‏، أي سواء صبرتم على عذابها ونكالها أم لم تصبروا، لا محيد لكم عنها ولا خلاص لكم منها، ‏{‏إنما تجزون ما كنتم تعملون‏}‏ أي ولا يظلم اللّه أحداً بل يجازي كلاً بعمله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏17 ‏:‏ 20‏)‏

‏{‏ إن المتقين في جنات ونعيم ‏.‏ فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم ‏.‏ كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون ‏.‏ متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين ‏}‏

أخبر اللّه تعالى عن حال السعداء فقال‏:‏ ‏{‏إن المتقين في جنات ونعيم‏}‏ وذلك بضد ما أولئك فيه من العذاب والنكال، ‏{‏فاكهين بما آتاهم ربهم‏}‏ أي يتفكهون بما آتاهم اللّه من النعيم، من أصناف الملاذ من مآكل ومشارب، وملابس ومساكن ومراكب وغير ذلك، ‏{‏ووقاهم ربهم عذاب الجحيم‏}‏ أي وقد نجاهم من عذاب النار، وتلك نعمة مستقلة بذاتها، مع ما أضيف إليها من دخول الجنة، التي فيها من السرور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون‏}‏، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية‏}‏ أي هذا بذاك تفضلاً منه وإحساناً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏متكئين على سرر مصفوفة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ السرر في الحجال، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن الرجل ليتكيء المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول عنه ولا يمله يأتيه ما اشتهت نفسه ولذات عينه‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم عن الهيثم بن مالك الطائي مرفوعاً‏"‏‏.‏ وعن ثابت قال‏:‏ ‏(‏بلغنا أن الرجل ليتكيء في الجنة سبعين سنة عنده من أزواجه وخدمه، وما أعطاه اللّه من الكرامة والنعيم، فإذا حانت منه نظرة، فإذا أزواج له لم يكن رآهن قبل ذلك فيقلن‏:‏ قد آن لك أن تجعل لنا منك نصيباً‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم أيضاً عن ثابت البناني موقوفاً‏"‏ومعنى ‏{‏مصفوفة‏}‏ أي وجوه بعضهم إلى بعض كقوله‏:‏ ‏{‏على سرر متقابلين‏}‏، ‏{‏وزوجناهم بحور عين‏}‏ أي وجعلنا لهم قرينات صالحات، وزوجات حساناً من الحور العين، وقال مجاهد ‏{‏وزوجناهم‏}‏ أنكحناهم بحور عين، وقد تقدم وصفهن في غير وضع بما أغنى عن إعادته ههنا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏21 ‏:‏ 28‏)‏

‏{‏ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين ‏.‏ وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون ‏.‏ يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم ‏.‏ ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون ‏.‏ وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ‏.‏ قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ‏.‏ فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم ‏.‏ إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم ‏}‏

يخبر تعالى عن فضله وكرمه وامتنانه، ولطفه بخلقه وإحسانه، أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان، يلحقهم بآبائهم في المنزلة، وإن لم يبلغوا عملهم لتقر أعين الآباء بالأبناء، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته للتساوي بينه وبين ذاك، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ إن اللّه ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقرَّ بهم عينه، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير عن ابن عباس موقوفاً ورواه البزار عنه مرفوعاً‏"‏‏.‏ وروى ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم‏}‏، قال‏:‏ هم ذرية المؤمن يموتون على الإيمان، فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوها شيئاً، وروى الحافظ الطبراني عن ابن عباس أظنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا دخل الرجل الجنة سأل أبويه وزوجته وولده فيقال‏:‏ إنهم لم يبلغوا درجتك، فيقول‏:‏ يا رب قد عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به، وقرأ ابن عباس‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان‏}‏ الآية، هذا فضله تعالى على الأبناء ببركة عمل الآباء، وأما فضله على الآباء ببركة عمل الأبناء، فقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن اللّه ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول‏:‏ يا رب أنى لي هذه‏؟‏ فيقول‏:‏ باستغفار ولدك لك‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة، قال ابن كثير‏:‏ اسناده صحيح‏"‏‏.‏ وعن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث‏:‏ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له‏)‏ ‏"‏أخرجه مسلم عن أبي هريرة‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل امرئ بما كسب رهين‏}‏ لما أخبر عن مقام الفضل وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الآباء من غير عمل يقتضي ذلك، أخبر عن مقام العدل، وهو أنه لا يؤاخذ أحداً بذنب أحد، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏كل امرئ بما كسب رهين‏}‏ أي مرتهن بعمله لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس، سواء كان أباً أو ابناً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتسألون عن المجرمين‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون‏}‏ أي وألحقناهم بفواكه ولحوم من أنواع شتى مما يستطاب ويشتهى، وقوله‏:‏ ‏{‏يتنازعون فيها كأساً‏}‏ أي يتعاطون فيها كأساً أي من الخمر، قاله الضحّاك‏:‏ ‏{‏لا لغو فيها ولا تأثيم‏}‏ أي لا يتكلمون فيها بكلام لاغ، أي هذيان، ولا إثم، أي فحش كما يتكلم به الشربة من أهل الدنيا‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ اللغو الباطل، والتأثيم الكذب، وقال مجاهد‏:‏ لا يستبون ولا يؤثمون؛ وقال قتادة‏:‏ كان ذلك في الدنيا مع الشيطان، فنزه

اللّه خمر الآخرة عن قاذورات خمر الدنيا وأذاها، فنفى عنها صداع الرأس ووجع البطن وإزالة العقل بالكلية، وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام السيء الفارغ عن الفائدة المتضمن هذياناً وفحشاً، وأخبر بحسن منظرها وطيب طعمها ومخبرها فقال‏:‏ ‏{‏بيضاء لذة للشاربين * لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏لا يصدعون عنها ولا ينزفون‏}‏‏.‏ وقال ههنا‏:‏ ‏{‏يتنازعون فيها كأساً لا لغو فيها ولا تأثيم‏}‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون‏}‏ إخبار عن خدمهم وحشمهم في الجنة، كأنهم اللؤلؤ الرطب المكنون، في حسنهم وبهائهم ونظافتهم وحسن ملابسهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين‏}‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأقبل بعضهم على بعض يتسألون‏}‏ أي أقبلوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، كما يتحادث أهل الشراب على شرابهم، ‏{‏قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين‏}‏ أي كنا في الدار الدنيا ونحن بين أهلينا خائفين من ربنا، مشفقين من عذابه وعقابه ‏{‏فمنَّ اللّه علينا ووقانا عذاب السموم‏}‏ أي فتصدق علينا وأجارنا مما نخاف، ‏{‏إنا كنا من قبل ندعوه‏}‏ أي نتضرع إليه فاستجاب لنا وأعطانا سؤالنا ‏{‏إنه هو البر الرحيم‏}‏، عن أنَس قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان فيجيء سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا فيتحدثان، فيتكئ هذا ويتكئ هذا فيتحدثان بما كان في الدنيا، فيقول أحدهما لصاحبه‏:‏ يا فلان تدري أي يوم غفر اللّه لنا‏؟‏ يوم كنا في موضع كذا وكذا فدعونا اللّه عزَّ وجلَّ فغفر لنا‏)‏ ‏"‏أخرجه الحافظ البزار عن أنَس وقال‏:‏ لا نعرفه إلا بهذا الإسناد‏"‏‏.‏ وعن مسروق عن عائشة أنها قرأت هذه الآية‏:‏ ‏{‏فمنَّ اللّه علينا ووقانا عذاب السموم * إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم‏}‏، فقالت‏:‏ اللهم منّ علينا، وقنا عذاب السموم، إنك أنت البر الرحيم‏:‏ قيل للأعمش‏:‏ في الصلاة‏؟‏ قال‏:‏ نعم ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏29 ‏:‏ 34‏)‏

‏{‏ فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ‏.‏ أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ‏.‏ قل تربصوا فإني معكم من المتربصين ‏.‏ أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون ‏.‏ أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون ‏.‏ فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ‏}‏

يقول تعالى آمراً رسوله صلى اللّه عليه وسلم بأن يبلغ رسالته إلى عباده، وأن يذكرهم بما أنزل اللّه عليه، ثم نفى عنه ما يرميه به أهل البهتان والفجور فقال‏:‏ ‏{‏فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون‏}‏، أي لست بحمد اللّه بكاهن كما تقوله الجهلة من كفار قريش، والكاهن الذي يأتيه الرِئي من الجان بالكلمة يتلقاها من خبر السماء، ‏{‏ولا مجنون‏}‏ وهو الذي يتخبطه الشيطان من المس‏.‏ ثم قال تعالى منكراً عليهم في قولهم في الرسول صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏{‏أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون‏}‏‏؟‏ أي قوارع الدهر، والمنون الموت، يقولون‏:‏ ننتظره ونصبر عليه حتى يأتيه الموت فنستريح منه‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏قل تربصوا فإني معكم من المتربصين‏}‏ أي انتظروا، فإني منتظر معكم وستعلمون لمن العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما‏:‏ إن قريشاً لما اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم قال قائل منهم‏:‏ احتبسوه في وثاق وتربصوا به ريب المنون، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير و النابغة إنما هو كأحدهم، فأنزل اللّه تعالى ذلك من قولهم‏:‏ ‏{‏أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون‏}‏‏؟‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أم تأمرهم أحلامهم بهذا‏}‏ أي عقولهم تأمرهم بهذا الذي يقولونه فيك من الأقاويل الباطلة، التي يعلمون في أنفسهم أنها كذب وزور ‏{‏أم قوم طاغون‏}‏ أي ولكن هم قوم طاغون ضلال معاندون، فهذا هو الذي يحملهم على ما قالوه فيك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم هم يقولون تقوله‏}‏ أي اختلقه وافتراه من عند نفسه يعنون القرآن، قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل لا يؤمنون‏}‏ أي كفرهم هو الذي يحملهم على هذه المقالة‏:‏ ‏{‏فليأتوا بحديث مثله إن كنتم صادقين‏}‏ أي إن كانوا صادقين في قولهم، تقوله وافتراه‏:‏ فليأتوا بمثل ما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم من هذا القرآن، فإنهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل الأرض، من الجن والإنس ما جاءوا بمثله ولا بسورة من مثله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏35 ‏:‏ 42‏)‏

‏{‏ أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ‏.‏ أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون ‏.‏ أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون ‏.‏ أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين ‏.‏ أم له البنات ولكم البنون ‏.‏ أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ‏.‏ أم عندهم الغيب فهم يكتبون ‏.‏ أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون ‏.‏ أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون ‏}‏

هذا المقام في إثبات الربوبية، وتوحيد الألوهية، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أم خلقوا من غير شيء‏؟‏ أم هم الخالقون‏}‏‏؟‏ أي أوجدوا من غير موجد‏؟‏ أم هم أوجدوا أنفسهم‏؟‏ أي لا هذا ولا هذا، بل اللّه هو الذي خلقهم وأنشأهم، بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً، روى البخاري، عن جبير بن مطعم قال‏:‏ سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية‏:‏ ‏{‏أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن رحمة ربك أم هم المصيطرون‏}‏‏؟‏ كاد قلبي أن يطير ‏"‏الحديث من رواية الشيخين، وجبير بن مطعم قدم على النبي صلى اللّه عليه وسلم بعد وقعة بدر في فداء الأسرى وكان إذ ذاك مشركاً، وكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام‏"‏‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون‏}‏‏؟‏ أي أهم خلقوا السماوات والأرض‏؟‏ وهذا إنكار عليهم في شركهم باللّه وهم يعلمون أنه الخالق وحده لا شريك له، ‏{‏أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون‏}‏‏؟‏ أي أهم يتصرفون في الملك وبيدهم مفاتيح الخزائن ‏{‏أم هم المصيطرون‏}‏ أي هم المحاسبون للخلائق، بل اللّه عزَّ وجلَّ هو المالك التصرف الفعال لما يريد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم لهم سلم يستمعون فيه‏}‏‏؟‏ أي مرقاة إلى الملأ الأعلى، ‏{‏فليأت مستمعهم بسلطان مبين‏}‏ أي فليأت الذي يستمع لهم بحجة ظاهرة، على صحة ما هم فيه من الفعال والمقال، ثم قال منكراً عليهم فيما نسبوه إليه من البنات، واختيارهم لأنفسهم الذكور على الإناث، وقد جعلوا الملائكة بنات اللّه وعبدوهم مع اللّه فقال‏:‏ ‏{‏أم له البنات ولكم البنون‏}‏‏؟‏‏!‏ وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، ‏{‏أم تسألهم أجراً‏}‏‏؟‏ أي أجرة على إبلاغك إياهم رسالة اللّه، أي لست تسألهم على ذلك شيئاً، ‏{‏فهم من مغرم مثقلون‏}‏ أي فهم من أدنى شيء يتبرمون منه، ويثقلهم ويشق عليهم، ‏{‏أم عندهم الغيب فهم يكتبون‏}‏ أي ليس الأمر كذلك فإنه لا يعلم أحد من أهل السماوات والأرض الغيب إلا اللّه، ‏{‏أم يريدون كيداً * فالذين كفروا هم المكيدون‏}‏، يقول تعالى‏:‏ أم يريد هؤلاء بقولهم هذا في الرسول، وفي الدين غرور الناس وكيد الرسول وأصحابه، فكيدهم إنما يرجع وباله على أنفسهم، فالذين كفروا هم المكيدون، ‏{‏أم لهم إله غير اللّه سبحان اللّه عما يشركون‏}‏، وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد مع اللّه، ثم نزه نفسه الكريمة عما يقولون ويفترون، ويشركون، فقال‏:‏ ‏{‏سبحان اللّه عما يشركون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏44 ‏:‏ 49‏)‏

‏{‏ وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم ‏.‏ فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون ‏.‏ يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون ‏.‏ وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون ‏.‏ واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم ‏.‏ ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم ‏}‏

يقول تعالى مخبراً عن المشركين بالعناد والمكابرة للمحسوس ‏{‏وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً‏}‏ أي عليهم يعذبون به لما صدقوا ولما أيقنوا، بل يقولون هذا ‏{‏سحاب مركوم‏}‏ أي متراكم، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون‏}‏، وقال اللّه تعالى ‏{‏فذرهم‏}‏ أي دعهم يا محمد ‏{‏حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون‏}‏ وذلك يوم القيامة، ‏{‏يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئاً‏}‏ أي لا ينفعهم كيدهم ولا مكرهم الذي استعملوه في الدنيا، لا يجزي عنهم يوم القيامة شيئاً، ‏{‏ولا هم ينصرون‏}‏‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك‏}‏ أي قبل ذلك في الدار الدنيا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون‏}‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏ أي نعذبهم في الدنيا ونبتليهم فيها بالمصائب، لعلهم يرجعون وينيبون، فلا يفهمون ما يراد بهم، بل إذا جلي عنهم مما كانوا عليه فيه، عادوا إلى أسوأ مما كانوا كما جاء في بعض الأحاديث‏:‏ ‏(‏إن المنافق إذا مرض وعوفي، مثله في ذلك كمثل البعير لا يدري فيما عقلوه ولا فيما أرسوله‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا‏}‏ أي اصبر على أذاهم ولا تبالهم فإنك بمرأى منا وتحت كلاءتنا، واللّه يعصمك من الناس، وقوله تعالى ‏{‏وسبح بحمد ربك حين تقوم‏}‏ أي إلى الصلاة‏:‏ سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك قاله الضحّاك وعبد الرحمن بن أسلم ، وروى مسلم في صحيحه عن عمر أنه كان يقول‏:‏ هذا ابتداء الصلاة، وقال أبو الجوزاء‏:‏ ‏{‏وسبح بحمد ربك حين تقوم‏}‏ أي من نومك من فراشك، واختاره ابن جرير، ويتأيد هذا القول بما رواه الإمام أحمد، عن عبادة بن الصامت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من تعارّ من الليل فقال‏:‏ لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر ولا حول ولا قوة إلا باللّه، ثم قال‏:‏ رب اغفر لي - أو قال ثم دعا - أستجيب له، فإن عزم فتوضأ ثم صلى قبلت صلاته‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد ورواه البخاري وأهل السنن‏"‏‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وسبح بحمد ربك حين تقوم‏}‏ قال من كل مجلس، وقال الثوري ‏{‏وسبح بحمد ربك حين تقوم‏}‏ قال إذا أراد الرجل أن يقوم من مجلسه قال سبحانك اللهم وبحمدك، وهذا القول كفارة المجالس، وعن أبي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه‏:‏ سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر اللّه له ما كان في مجلسه ذلك‏)‏ ‏"‏أخرجه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏"‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الليل فسبحه‏}‏ أي أذكره وأعبده بالتلاوة والصلاة في الليل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإدبار النجوم‏}‏ قد تقدم عن ابن عباس‏:‏ أنهما الركعتان اللتان قبل صلاة الفجر، فإنهما مشروعتان عند إدبار النجوم أي عند جنوحها للغيبوبة، لحديث‏:‏ ‏(‏لا تدعوهما وإن طردتكم الخيل، يعني ركعتي الفجر‏)‏ ‏"‏رواه أبو داود عن أبي هريرة مرفوعاً‏"‏‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ لم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر، وفي لفظ لمسلم‏:‏ ‏(‏ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها‏)‏